فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت في كل مُبْطن كفرًا أو نفاقًا أو كذبًا أو إضرارًا، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك؛ فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذيّ أن في بعض كتب الله تعالى: «إن من عباد الله قومًا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرّ من الصَّبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللِّين، يشترون الدنيا بالدِّين، يقول الله تعالى: أبي يغترّون، وعليّ يجترئون، فبي حلفت لأتيحنّ لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران».
قال القرظي: تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الآية. اهـ.

.قال الفخر:

الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة:
الصفة الأولى: قوله: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحياة الدنيا} والمعنى: يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس.
أما في قوله: {في الحياة الدنيا} ففيه وجوه أحدهما: أنه نظير قول القائل: يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى: يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا والثاني: أن يكون التقدير: يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جريء اللسان حلو الكلام، وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والاحتباس خوفًا من هيبة الله وقهر كبريائه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين، لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه، وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة؛ إذ لا غرض في ذلك هنا لأن المقصود ما يضاد قوله: وهو ألد الخصام إلى آخره.
والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير والإعراض عن الكفار، فيكون المراد بمَن المنافقين ومعظمهم من اليهود، وفيهم من المشركين أهل يثرب وهذا هو الأظهر عندي، أو طائفة معينة من المنافقين، وقيل: أريد به الأخنس بن شريف الثقفي واسمه أبي وكان مولى لبني زهرة من قريش وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم وكان يظهر المودة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس أي تأخر عن الخروج معهم إلى بدر وكان له ثلاثمائة من بني زهرة أحلافه فصدهم عن الانضمام إلى المشركين فقيل: إنه كان يظهر الإسلام وهو منافق، وقال ابن عطية: لم يثبت أنه أسلم قط، ولكن كان يظهر الود للرسول فلما انقضت وقعة بدر قيل: إنه حرق زرعًا للمسلمين وقتل حميرًا لهم فنزلت فيه هاته الآية ونزلت فيه أيضًا {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم} [القلم: 10، 11] ونزلت فيه {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة: 1]، وقيل بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة فبيتهم ليلًا فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم فنزلت فيه الآية وعلى هذا فتقريعه لأنه غدرهم وأفسد.
ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب تحذيرًا للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين وتنبيه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لابد منه. اهـ.
الصفة الثانية: قوله: {وَيُشْهِدُ الله على مَا في قَلْبِهِ} فالمعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه بالاستشهاد بالله، ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين، ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول: الله يشهد بأن الأمر كما قلت، فهذا يكون استشهادًا بالله ولا يكون يمينًا، وعامة القراء يقرؤن {وَيُشْهِدُ الله} بضم الياء، أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره، وقرأ ابن محيصن {يَشْهَدُ الله على مَا في قَلْبِهِ} بفتح الياء، والمعنى: أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره.
فالقراءة الأولى: تدل على كونه مرائيًا وعلى أنه يشهد الله باطلًا على نفاقه وريائه.
وأما القراءة الثانية: فلا تدل إلا على كونه كاذبًا، فأما على كونه مستشهدًا بالله على سبيل الكذب فلا، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى {يشهد الله على ما في قلبه} أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه، ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم إنه لصادق.
وإنما أفاد ما في قلبه معنى المطابقة لقوله لأنه لما أشهد الله حين قال كلامًا حلوًا تعين أن يكون مدعيًا أن قلبه كلسانه قال تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضونكم} [التوبة: 62]. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام}:

.قال ابن عاشور:

ومعنى {وهو ألد الخصام} أنه شديد الخصومة أي العداوة مشتق من لده يلده بفتح اللام لأنه من فعل، تقول: لددت يا زيد بكسر الدال إذا خاصم، فهو لاد ولدود فاللدد شدة الخصومة والألد الشديد الخصومة قال الحماسي ربيعة بن مقروم:
وأَلَدَّ ذِي حَنَققٍ عليَّ كَأَنَّما ** تَغْلِي حَرَارَةُ صَدْرِه في مِرْجَلِ

فألد صفة مشبهة وليس اسم تفضيل، ألا ترى أن مؤنثه جاء على فعلاء فقالوا: لداء وجمعه جاء على فُعْل قال تعالى: {وتنذر به قومًا لدًا} [مريم: 97] وحينئذٍ ففي إضافته للخصام إشكال؛ لأنه يصير معناه شديد الخصام من جهة الخصام فقال في (الكشاف): إما أن تكون الإضافة على المبالغة فجعل الخصام أَلَد أي نُزِّل خصامه منزلة شخص له خصام فصارا شيئين فصحت الإضافة على طريقة المجاز العقلي، كأنه قيل: خصامه شديد الخصام كما قالوا: جُنَّ جُنُونُه وقالوا: جَدَّ جَدُّه، أو الإضافة على معنى في أي وهو شديد الخصام في الخصام أي في حال الخصام، وقال بعضهم يقدر مبتدأ محذوف بعد {وهو} تقديره: وهو خصامه ألد الخصام وهذا التقدير لا يصح لأن الخصام لا يوصف بالألد فتعيَّن أن يُؤَوَّل بأنه جعل بمنزلة الخصم وحينئذٍ فالتأويل مع عدم التقدير أولى، وقيل الخصام هنا جمع خَصم كصَعْب وصِعاب وليس هو مصدرًا وحينئذٍ تظهر الإضافة أي وهو ألد الناس المخاصمين. اهـ.

.قال الفخر:

الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الألد: الشديد الخصومة:
يقال: رجل ألد، وقوم لد، وقال الله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97] وهو كقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] يقال: منه لد يلد، بفتح اللام في يفعل منه، فهو ألد، إذا كان خصمًا، ولددت الرجل ألده بضم اللام، إذا غلبته بالخصومة، قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه، ولديدي الوادي، وهما جانباه، وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه.
وأما {الخصام} ففيه قولان أحدهما: وهو قول خليل: إنه مصدر بمعنى المخاصمة، كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة، فيكون المعنى: وهو شديد المخاصمة، ثم في هذه الإضافة وجهان أحدهما: أنه بمعنى {فِى} والتقدير: ألد في الخصام والثاني: أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة.
والقول الثاني: أن الخصام جمع خصم، كصعاب وصعب، وضخام وضخم، والمعنى: وهو أشد الخصوم خصومة، وهذا قول الزجاج، قال المفسرون: هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق على ما شرحناه: وفيه نزل أيضًا قوله: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} [القلم: 10، 11] ثم للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة، قال مجاهد {أَلَدُّ الخصام} معناه: طالب لا يستقيم، وقال السدي: أعوج الخصام وقال قتادة ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل، شديد القصوة في معصية الله، عالم اللسان جاهل العمل. اهـ.

.قال القرطبي:

قال علماؤنا: وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأُمور الدِّين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم؛ لأن الله تعالى بيّن أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلًا وهو ينوي قبيحا.
فإن قيل: هذا يعارضه قوله عليه السلام: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث، وقوله: «فاقضي له على نحو ما أسمع» فالجواب أن هذا كان في صدر الإسلام، حيث كان إسلامهم سلامتهم، وأما وقد عمّ الفساد فلا؛ قاله ابن العربي.
قلت: والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبيّن خلافه؛ لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاريّ: أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيرًا أمّناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمّنه ولم نصدّقه، وإن قال إن سريرته حسنة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال ابن عاشور:

والإعجاب إيجاد العجب في النفس والعجب: انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه. ولما كان شأن ما يخفى سببه أن ترغب فيه النفس، صار العجب مستلزمًا للاستحسان فيقال أعجبني الشيء بمعنى أوجب لى استحسانه، قال الكواشي يقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الإنكار: عجبت من كذا، فقوله: {يعجبك} أي يحسن عندك قوله. اهـ.

.فائدة لغوية في الظرف في قوله: {في الحياة الدنيا}:

الظرف من قوله: {في الحياة الدنيا} يجوز أن يتعلق بيعجبك فيراد بهذا الفريق من الناس المنافقون الذين يظهرون كلمة الإسلام والرغبة فيه على حد قوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} [البقرة: 14] أي إعجابك بقولهم لا يتجاوز الحصول في الحياة الدنيا فإنك في الآخرة تجدهم بحالة لا تعجبك فهو تمهيد لقوله في آخر الآية: {فحسبه جهنم} والظرفية المستفادة من في ظرفيةٌ حقيقية.
ويجوز أن يتعلق بكلمة {قوله} أي كلامه عن شؤون الدنيا من محامد الوفاء في الحلف مع المسلمين والود للنبيء ولا يقول شيئًا في أمور الدين، فهذا تنبيه على أنه لا يتظاهر بالإسلام فيراد بهذا الأخنس بن شريق.
وحرف في على هذا الوجه للظرفية المجازية بمعنى عن والتقدير قوله: عن الحياة الدنيا. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الناس على قسمين: قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة.
والقسم الثاني: قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم، عمّروا قلوبهم بمحبة الله، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله، قلوبهم في أعلى عليين، وأشباحهم في أسفل سافلين، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين: كلما وضعت نفسك أرضًا أرضًا، سما قلبك سماء سماء، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك. وفي الحديث: «مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره» وبالله التوفيق. اهـ.